حسين بَقَيرة – كاتب سوداني بالمملكة المتحدة
بينما يتحدث قادة البلاد عن الفساد والمفسدين وضرورة مكافحته وهي قضية لا شك في أهميتها يبدو أنهم يتجاهلون ترتيب الأولويات في وقتٍ لا تزال فيه البلاد تحت نار الحرب المستعرة. مليشيا الجنجويد، التي طوّرت قدراتها العدوانية بدعم من “دويلة الشر”، شنت هجومًا وحشيًا على معسكر زمزم للنازحين بين 11 و13 أبريل 2025، ارتكبت خلاله مجازر مروّعة وجرائم ضد الإنسانية، جرائم حرب و الابادة الجماعية. شملت هذه الانتهاكات أبشع صنوف التعذيب والتنكيل: من بتر الأعضاء التناسلية وقطع الرؤوس إلى التصفيات الجسدية، إضافة إلى تجويع وتعطيش ممنهج و مميت استهدف العجزة والرضّع وحتى الحيوانات. ثم دمرت المرافق الصحية وأحرقت القرى والمساكن المصنوعة من القش لإجبار من تبقى على الفرار قسرًا، تاركين أراضيهم التي ولدوا وترعرعوا فيها أبًا عن جد.
وقد هاجمت مليشيا الدعم السريع الإرهابية بقيادة الجنجويدي عبد الرحيم دقلو مدينة الفاشر بتاريخ 30 أبريل 2025 من خمسة محاور، في واحدة من أعنف الهجمات، تصدت لها القوات المسلحة والقوة المشتركة والمقاومة الشعبية ببسالة، وسُجّلت المعركة برقم 208. ورغم تراجع المليشيا، عادت إلى نمطها المعتاد من القصف و التدوين العشوائي، ثم صعّدت باستخدام الطائرات المسيّرة الاستراتيجية التي باتت تحلّق فوق سماء الفاشر على مدار الساعة.
لم تتوقف الانتهاكات عند هذا الحد؛ ففي 1 مايو 2025، شنّت المليشيا هجومًا بربريًا على مدينة النهود، ارتكبت خلاله مجازر بشعة بحق المدنيين، شملت عمليات تصفية ودهس بالسيارات، في مشاهد تعكس مدى إدمان هذه المليشيات على ارتكاب الجرائم. لقد تحوّلت مليشيا الدعم السريع إلى وحوش بشرية منزوعي الإحساس والإنسانية.
وفي تطور لافت طال انتظاره، شنّت القوات المسلحة ضربة جوية دقيقة على مطار نيالا (منبع الشر) ليلة 3 مايو 2025، ما أدى إلى اشتعال النيران وتحويل الليل إلى نهار من شدة الانفجارات، وأسفر عن خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد. تم تدمير مخازن الأسلحة التي كانت تستخدمها “دويلة الشر” (الإمارات) لنقل الأسلحة النوعية والطائرات المسيّرة والمرتزقة إلى السودان. هذه الضربة ستؤثر بلا شك في ميزان القوة، إذ من المتوقع أن تفقد مليشيا الدعم السريع قريبًا ميزتها العسكرية.
لم يكد غبار هذه الضربة يهدأ حتى قامت المليشيا بتصفية رئيس معسكر عطاش للنازحين ونجله وجاره في نيالا، في محاولة يائسة للانتقام، وشيّعهم النازحون في موكب مهيب ومؤلم. وفي تصعيد جديد، استهدفت مليشيا الدعم السريع صباح اليوم 4 مايو 2025 قاعدة عثمان دقنة الجوية في بورتسودان بطائرات مسيّرة مفخخة. ووفقًا لبيان القوات المسلحة، تمكنت المضادات الأرضية من إسقاط معظمها، وأدت الهجمات إلى أضرار طفيفة في مخزن ذخيرة دون خسائر بشرية. وعلى إثر ذلك، تم تعليق الرحلات الجوية إلى مطار بورتسودان حتى إشعار آخر.
هذه الهجمات الأخيرة تؤكد ما نكرره دائمًا: الحرب لم تنتهِ بعد، بل دخلت مرحلة جديدة وأكثر خطورة. وقد تكون هذه المرحلة هي الجولة الحاسمة للقضاء على التمرد نهائيًا. تحقيق هذا الهدف يتطلب إعادة ترتيب الأولويات بما يتناسب مع ضرورات المرحلة الحالية. يجب على قيادة الدولة أن تعيد التفكير وتتحمّل مسؤوليتها الوطنية تجاه كل شبر من أرض السودان بالتساوي. أمن الخرطوم وبورتسودان وبقية مناطق السودان مرتبط بفك حصار الفاشر و تحرير نيالا والجنينة زالنجي و الضعين، وتدمير الممرات الآمنة للعدو، وعلى رأسها مطار نيالا.
لقد نبهنا مرارًا القوات المسلحة بضرورة تدمير طرق إمداد العدو وتجفيف منابع أسلحته، لكن الاستراتيجية المتبعة حتى الآن، والتي قامت على استدراج العدو حتى استنزافه، أثبتت محدودية نجاحها. وصول الأسلحة الحديثة إلى معظم أرجاء السودان، بما في ذلك بورتسودان وكسلا وقاعدة كرري بأمدرمان ومروي وعطبرة ودنقلا، هو الدليل القاطع على ذلك. هذه الدروس القاسية كافية لأن تدفع قيادة الدولة لاستخلاص العبر وتصحيح مسارها بصدق وأمانة حتى يتم التخلص من مليشيا الجنجويد بشكل نهائي.
كلما اقترب الصراع من المركز، توحّد السودانيون واستشعروا آلام بعضهم البعض، وكلما ابتعد، ظهر خطر التفرقة وخطاب المناطقية والجهوية البغيضة. ما كشفت عنه الوثائق السرية (خارطة الطريق المقدّمة من السودان إلى الأمم المتحدة) في مارس الماضي، والتصريحات المتكررة عن الفساد، والرسائل المبطنة الموجّهة لجهات بعينها، تؤكد أن أبناء الهامش (القوة المشتركة) أكثر وطنية وصدقًا من بعض أبناء المركز الذين يسيطرون على السلطة دون اكتراث بوحدة الصف الوطني.
مرة اخري نؤكد أن الأولوية القصوى الآن يجب أن تكون تدمير مطار نيالا ومخازنه من المسيرات والأسلحة، ومراقبة الجنينة ومطارها باعتبارها معابر رئيسية لإمدادات العدو. فك حصار مدينة الفاشر ضرورة وطنية كبرى؛ فهي بوابة تأمين السودان، وصمودها يعني بقاء الدولة السودانية وانتصارها. بهذه الخطوات فقط سيهنأ الشعب السوداني بالأمن والاستقرار، ويتخلص من ويلات مليشيا الدعم السريع الإرهابية وحلفائها، وعلى رأسهم دويلة الشر الإمارات.